في أواخر الشهر الماضي، شهد سكان صنعاء حدثاً غير مألوف. فعلى الرغم من أن الدخان المتصاعد فوق أفق العاصمة اليمنية كان مألوفاً لمن اعتادوا على ويلات الحرب، فإن الفيلا التي انبعث منها الدخان كانت تحتضن اجتماعاً لوزراء حكومة الحوثيين. وقد شنّت غارة جوية إسرائيلية على الموقع، أسفرت عن مقتل رئيس الوزراء الحوثي أحمد غالب الرهوي وعدد من الوزراء الآخرين.
وجاءت هذه الضربة الجوية غير المسبوقة ضد كبار المسؤولين المدنيين في سياق تصعيد متبادل دام عدة أيام، بدأ عندما أطلقت قوات الحوثيين صاروخاً باليستياً جديداً متعدد الرؤوس نحو إسرائيل، تجاوز نظام الدفاع “القبة الحديدية” وضرب ضواحي تل أبيب.
وعلى الرغم من أن الطرفين تبادلا الهجمات طوال العامين الماضيين، فإن آخر جولة تشير إلى أن مرحلة تصعيد خطيرة قد بدأت.
•من الصواريخ العنقودية إلى الضربة على صنعاء
شهد هجوم الحوثيين على إسرائيل في 22 أغسطس/ آب الاستخدام الموثق الأول لصاروخ باليستي مزوّد برأس حربي عنقودي، مما جعل اعتراضه مهمة معقدة حتى بالنسبة لشبكة الدفاع متعددة الطبقات في إسرائيل. دوت صفارات الإنذار في عدة مناطق من البلاد عند دخول الصاروخ المجال الجوي، وأُغلق مطار بن غوريون الدولي لساعات. وعلى الرغم من أن الصاروخ لم يتسبب بأضرار كبيرة، فإن هذا الاختراق النادر لدرع الدفاع الإسرائيلي كان ذا أثر رمزي كبير، ودفع صانعي القرار الإسرائيليين إلى الرد بقوة.
في 24 أغسطس/ آب، هزّت العاصمة اليمنية انفجارات استهدفت مواقع حيوية، من بينها المجمع الرئاسي ومحطة كهرباء ومنشأة نفطية اندلعت فيها النيران، ما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن عشرة مدنيين وإصابة العشرات.
غير أن الضربة الأهم جاءت بعد أربعة أيام، عندما جمعت إسرائيل معلومات عن اجتماع لحكومة الحوثيين. وعلى الرغم من أن الاستخبارات الإسرائيلية لم تكن على اطلاع كامل بالحوثيين قبل 7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023، فإنها كثفت قدراتها خلال الأشهر الأخيرة. ووفقاً لشهادات محلية، جرت الضربة بينما كان وزراء الحوثيين مجتمعين لمتابعة بث مباشر لخطاب زعيمهم عبد الملك الحوثي، الذي تعهّد فيه بالانتقام من إسرائيل على الهجمات السابقة.
•اختراق أمني أم استثمار في الهشاشة؟
يثير نجاح الحوثيين الأخير في اختراق الدفاعات الإسرائيلية تساؤلات جديدة حول التحولات العسكرية في المنطقة: هل كانت مجرد هفوة مؤقتة أم أنه كشف عن هشاشة أعمق؟
وليس هذا أول وصول لنيران الحوثيين إلى قلب إسرائيل. ففي العامين الماضيين، أطلق الحوثيون عشرات الصواريخ والطائرات المسيّرة، اعترض معظمها أو فشل في بلوغ أهدافه، باستثناء ضربة بطائرة مسيّرة في يوليو/ تموز 2024 أصابت مبنى قرب السفارة الأميركية في تل أبيب، ما أسفر عن قتلى وجرحى من المدنيين، وصاروخ باليستي في مايو/ أيار 2025 هبط قرب مطار بن غوريون وألحق أضراراً وأعاق الرحلات مؤقتاً.
ما يميز الضربة الأخيرة هو استخدام رأس عنقودي ينفجر في الجو مطلقاً عدة ذخائر فرعية تُربك رادارات “القبة الحديدية”، مما يجعل اعتراضه شبه مستحيل. وتكشف هذه التطورات عن نقطة ضعف حرجة في منظومات الدفاع الإسرائيلية. ومن منظور الحوثيين، فإن وصول صاروخ إلى ضواحي تل أبيب يمثل إنجازاً عسكرياً ودعائياً ورسالة بأن قدرتهم تمتد لتخترق المسافات والتحصينات.
وفي الخلفية، تبرز إيران، الحاضنة لهذه التكنولوجيا، مشيرة عبر حليفها إلى امتلاكها قدرات غير معلنة يمكن استخدامها مستقبلاً ضد إسرائيل. أما من منظور تل أبيب، فقد يُفسَّر الحدث على أنه إخفاق تقني عابر ناتج عن تهديدات متزامنة أو أعطال في الأنظمة. ومع ذلك، فإن تكرار وتنوع هجمات الحوثيين يشير إلى مسار تصاعدي في قدراتهم، إذ تمنحهم كل ضربة ناجحة خبرة عملياتية ونفوذاً سياسياً يفرض على إسرائيل إعادة النظر في استراتيجياتها الدفاعية.
وبذلك تحوّل الصراع إلى معركة رمزية حول صورة إسرائيل كدولة قادرة على حماية جبهتها الداخلية. أما الحوثيون، فيكفيهم سقوط شظايا على ضواحي تل أبيب ليعلنوا “انتصاراً سياسياً وأخلاقياً” بغض النظر عن الأضرار المادية.
في المقابل، بدت الضربة الإسرائيلية الأخيرة بلا لبس. فمنذ بدء إسرائيل عملياتها ضد الحوثيين قبل نحو عام، حافظت على نمط ثابت تقريباً: استهداف البنى التحتية والمرافق الحيوية، ومحاولات متقطعة لاغتيال قادة عسكريين بارزين. وقد جعل هذا النمط الحوثيين يعتقدون أن الإجراءات الإسرائيلية ستبقى ضمن حدود معينة.
غير أن هجوم 28 أغسطس/ آب غيّر المعادلة، إذ لم يقتصر على مواقع عسكرية أو لوجستية، بل استهدف إسقاط الهيكل الإداري للحوثيين من القمة. وهكذا بعثت إسرائيل رسالة مزدوجة: للحوثيين بأنها كسرت قواعد الاشتباك، وللمنطقة الأوسع بأنها لن تميّز بعد اليوم بين أهداف مدنية وعسكرية، ولن تعترف بخطوط حمراء. وقد تعزز هذا التحول بضربة لاحقة في الدوحة، أكدت استعداد إسرائيل لتوسيع الحملة خارج حدود اليمن.
•دوافع استمرار الصراع
كما كان متوقعاً، استقر التصعيد في جولة جديدة من الصراع. ففي غضون ساعات من تشييع صنعاء لرئيس وزرائها وزملائه في 1 سبتمبر/ أيلول، أعلن الحوثيون استهداف ناقلة نفط في البحر الأحمر قرب ميناء ينبع السعودي، كردّ أولي على اغتيال المسؤولين. وعلى الرغم من أن السفينة كانت ترفع العلم الليبيري، فإنها كانت مملوكة لإسرائيل.
وردّت إسرائيل بتعهد بالانتقام بعنف أكبر، مؤكدة أن أي هجوم حوثي سيقابله تصعيد مضاعف. ويكشف هذا التبادل عن حلقة مفرغة من الانتقام، حيث تجرّ كل ضربة حوثية رداً إسرائيلياً أعنف، يعقبه تصعيد جديد من الحوثيين. وهكذا تحوّل الصراع من كونه جبهة داعمة لغزة إلى حرب قائمة بذاتها، تغذيها الرغبة في الانتقام والرمزية.
وبالنسبة للحوثيين، لم يعد استهداف إسرائيل مجرد إظهار دعم لغزة، بل أيضاً انتقام مباشر لقياداتهم الذين سقطوا في صنعاء. أما إسرائيل، فترى الحوثيين كوكيل لإيران في حرب إقليمية، مما يستدعي استراتيجية ردع مفتوحة تقوم على مضاعفة الرد.
لكن هذه الحسابات تضع الطرفين على طريق صراع طويل الأمد. فقد أكد الحوثيون أن الهدنة الموقّعة مع واشنطن قبل أشهر لا تشمل إسرائيل، ما يعني استمرار العمليات ضدها. ومع غياب حل في الأفق لغزة، يبدو أننا أمام حرب استنزاف منخفضة الشدة لكنها مستمرة، يشن فيها الحوثيون هجمات لإرسال رسائل سياسية ودعائية، بينما ترد إسرائيل بقوة متى سمحت الظروف الاستخباراتية.
وبذلك أصبح الطرفان أسرى منطق التصعيد: صاروخ حوثي يخترق سماء تل أبيب يقابله قصف إسرائيلي على صنعاء، في مسار يبدو أنه دخل مرحلة يصعب التراجع عنها ما لم يحدث تغير جذري. ومع تداخل الحسابات الاستراتيجية بالدوافع الأيديولوجية، يبدو أن نيران الحرب لن تخبو في المستقبل القريب طالما بقيت الجبهات مشتعلة في غزة واليمن.
لقراءة المادة من موقعها الأصلي عبر الرابط التالي: