في إحدى قرى ريف المواسط بمحافظة تعز، تعيش س.م، امرأة أربعينية وجدت نفسها، مثل كثير من نساء الريف، أمام خيار واحد حين يطرق المرض أبواب عائلتها: اللجوء إلى السحر والطب الشعبي.
منذ طفولتها، اعتادت أن ترافق والديها إلى أحد المشايخ في القرية، كلما أصيب أحد أفراد الأسرة بوعكة صحية. لم تكن هناك مراكز طبية قريبة، ولا أطباء يمكن الوصول إليهم بسهولة. وكان الحل دائمًا: إما أعشاب ممزوجة بالعسل، أو أوراق مكتوب عليها تعاويذ تُخبأ تحت الوسائد أو في زوايا البيت لطرد العين والشر.
الطفولة إلى وراثة الممارسات الشعبية
تقول س.م: "كبرنا على هذا النهج، لم نعرف غيره، وكانت بعض العلاجات تخفف عنا الألم بالفعل. وإن لم تُجدِ نفعًا، عدنا إلى الشيخ مرة أخرى ليصف لنا أعشابًا جديدة."
لكن غياب الخدمات الصحية لم يمر بسلام. فقد أصيب والدها لاحقًا بسرطان المعدة، ولم تدرك الأسرة ذلك إلا بعد أن ازداد المرض. حينها اضطرت العائلة لنقله إلى صنعاء بحثًا عن علاج لم يجدوه في قريتهم، بعد سنوات من الاعتماد على وصفات تقليدية لم تستطع مواجهة المرض.
وبهذا الخصوص، يؤكد أخصائي الباطنية العام، الدكتور عبده مسعد الاحصب، أن الطب الشعبي والسحر من المواضيع الشائعة جدًا، خصوصًا في المجتمعات الريفية، حيث تلجأ الكثير من النساء إلى هذه الممارسات كبديل للطب الحديث. ويوضح أن العلاج بالطب الشعبي قد يؤدي إلى أعراض جانبية خطيرة، أبرزها تسمم الكبد وارتفاع الإنزيمات واصفرار الجسم، نتيجة الاستخدام الخاطئ لهذه العلاجات دون رقابة طبية.
ويشير إلى أن هذه الممارسات قد تتسبب أيضًا في تلف الكلى بسبب تداخل الأعشاب مع الأدوية، مما يؤدي إلى زيادة أو نقصان مفعول العلاج بطريقة تضر بصحة المريض. كما يوضح أن الطب الشعبي يمكن أن يسبب اضطرابات في الجهاز الهضمي والهرمونات، إضافة إلى ذلك البعض يعاني من اضطرابات نفسية فيلجأ لطب الشعبي مما يؤدي الى تفاقم الاضطرابات النفسية ويزداد لديه الأرق والكوابيس المتكررة، مؤكدًا أن ضرره يفوق نفعه.
الطب البديل
في هذا السياق، يوضح نبيل علي علي رزق الأهجري، طبيب أعشاب يمني يمارس المهنة منذ أكثر من ثلاثين عامًا، أن الطب البديل ليس مجرد أعشاب، بل ممارسة شاملة تضم الوخز بالإبر الصينية، التدليك، الكي، وحتى العلاج بالقرآن الكريم. ويؤكد أن هذه الممارسات تمثل امتدادًا للطب الأصيل الذي ورثته المجتمعات جيلاً بعد جيل، لكنه صار يُسمى "بديلًا" بعد دخول الطب الكيميائي وهيمنته على العقول والمجتمعات.
الأهجري، الذي تربى على يد والده الطبيب الشعبي الأول في قريته، يرى أن انتشار الأمراض اليوم يرتبط ارتباطًا مباشرًا بنمط الحياة الغذائي الحديث، خصوصًا المعلبات، الدقيق الأبيض، والسكر، معتبرًا أنها السبب وراء ضعف المناعة وارتفاع معدلات الإصابة بأمراض الجهاز الهضمي مثل جرثومة المعدة، والتي يقول إنها تصيب نحو 75% من المجتمع، أغلبهم من النساء.
ويضيف أن الطب البديل ما يزال يحقق نجاحات ملموسة في علاج أمراض يعجز الطب الحديث عن التعامل معها، مثل الأكزيما والصدفية التي يؤكد أنه يعالجها بنسبة نجاح كاملة ونهائية، إضافة إلى أمراض خطيرة كالتهاب الكبد الفيروسي، التليف الكبدي، والروماتيزم.
غير أن الأهجري يحذر من الدخلاء على المهنة الذين يسيئون استخدامها، ويعرضون حياة المرضى للخطر عبر خلطات عشبية غير مدروسة أو نسب جرعات غير موزونة. ويشدد على أن نجاح العلاج يتطلب التزام المريض بنظام غذائي صارم، وأن الطبيب الحقيقي هو من يفهم الحالة ويشخّصها بدقة، لا من يكتفي بقراءة تقرير مختصر.
بالنسبة له، يبقى الطب البديل أكثر من مجرد علاج، إنه "موروث أصيل" يرى فيه الناس توازنًا بين علاج الجسد والروح والنفس، في وقت تحوّل فيه الطب الحديث – على حد وصفه – إلى تجارة أكثر منه مهنة إنسانية.
الأبعاد الاجتماعية
رغم توفر الطبّ الحديث، ما تزال كثير من النساء في الأرياف يلجأن إلى الطبّ الشعبيّ والسحر لعلاج أمراضهنّ. هذه الظاهرة لا يمكن اختزالها في غياب الخدمات الطبية فقط، بل ترتبط بجذور ثقافية واجتماعية واقتصادية وتعليميّة ممتدّة عبر أجيال، تعكس طبيعة المجتمعات الريفية ومحدوديّة وعيها الصحيّ.
وتوضّح الأخصائية الاجتماعية إيناس عبده محمد الزوار أن استمرار لجوء النساء الريفيات للطبّ الشعبيّ والسّحر يعود إلى مزيج من الموروثات الثقافية والاجتماعية والنّفسيّة والدينية.
"المرأة الريفية ترى في الطبّ الشعبي ثقةً أكبر من الطبّ الحديث، لأنه بالنسبة لها يعالج الجسد والروح والنفس معًا، بينما يقتصر الطبّ الحديث على الجانب الجسدي فقط. كما أن المثل الشعبي ‘اسألَ مجرَّبًا ولا تسأل طبيبًا’ يعكس قوّة التجربة الجماعية على حساب الدليل العلمي".
وتضيف الزوار أن عوامل أخرى تُعزّز هذا السلوك، أبرزها: الفقر الذي يجعل العلاج الشعبي أقل تكلفةً مقارنةً بالعلاج الطبي، ومكانة "الحكيمة" أو "الداية" التي تحظى بثقة النساء وتمنح وصفات أو تفسيرات مرتبطة بالسّحر، وأيضًا الاعتقاد الدينيّ والشعبيّ بالسّحر والجنّ والرُّقْيَة كجزء من الثقافة الريفية. وإن ضعف التعليم وقلة الوعي الصحيّ يتركان المجال للموروث الشعبي ليصبح المصدر الأساسيّ للمعرفة الطبيّة.
وتابعت: "التّغيير يبدأ بالتثقيف الصحيّ التشاركي عبر ورش بسيطة بلغةٍ قريبة من النساء، ودمج المعالجات الشعبيّة ليصبِحن جسرًا بين الموروث الشعبي والطبّ الحديث".
وترى الزور أنّ مواجهة الظاهرة لا تتحقّق بالمواجهة المباشرة مع المعتقدات، بل عبر حلول تدريجيّة تراعي خصوصيّة هذه المجتمعات من خلال تحسين الخدمات الصحيّة في القرى عبر مراكز قريبة وبأسعار رمزيّة وكوادر نسائية، وإشراك قادة المجتمع المحليّ والشباب في حملات التوعية، باستخدام وسائل مألوفة مثل القصص الشعبية والمسرح المجتمعي، وأيضًا دعم مجموعات النساء لتبادل الخبرات ومواجهة المعتقدات الخاطئة بشكل جماعي.