تقرير: من الكبتاغون إلى غزة خلال 24 ساعة
يمن فيوتشر - The Ideology Machine- فاطمة ابو الاسرار- ترجمة خاصة الاربعاء, 20 أغسطس, 2025 - 03:07 صباحاً
تقرير: من الكبتاغون إلى غزة خلال 24 ساعة

في الرابع عشر من أغسطس/آب، نشرت السفارة الأميركية في اليمن على منصة “إكس” (تويتر سابقًا) صورة كاريكاتورية بدائية في أسلوبها، لكنها مباشرة في رسالتها: رجل مسن يطلب دواءً للقلب من صيدلي، فيُقدَّم له بدلًا من ذلك مخدرات على يد مقاتل مبتسم يحمل على ظهره كلاشينكوف. أما التعليق المرفق، فحمل وسم #أنصار_المخدرات، في تحوير ساخر لاسم “أنصار الله”، ليُعاد تعريفهم بأنهم “أنصار المخدرات”. الرسالة كانت جلية: الحوثيون تحولوا إلى متاجرين بالمخدرات، يجمعون الأرباح من تجارة الكبتاغون.

كانت تلك محاولة من السفارة الأميركية لصياغة خطاب دعائي موجَّه – صورة كرتونية بدائية يُولِّدها الذكاء الاصطناعي – لكنها صُممت بعناية لتسليط الضوء على الحوثيين. ولم تكن السفارة مخطئة في الجوهر، إذ إن الحوثيين متورطون بعمق في أنشطة تهريب المخدرات، لا سيما تجارة الكبتاغون المربحة. غير أن تلك الصورة، لو تُركت وحدها، لربما اكتفت ببضع مشاركات عابرة قبل أن تضيع وسط ضوضاء الفضاء الرقمي. لكن، وخلال أربع وعشرين ساعة فقط، بعث الحوثيون رسالة واضحة: إنهم يراقبون.

فقد ظهر نقد لافت على الموقع الرسمي لـ”أنصار الله” بقلم (عبدالملك عيسى)، بعنوان: «السفارة الأميركية تفضح نفسها: فشل الأدوات وارتباك الحرب الناعمة ضد صنعاء»، تناولته القنوات الإعلامية التابعة للحوثيين، بما فيها قناة المسيرة. ولم يكن الكاتب شخصية عادية؛ فمنصبه الأكاديمي – عميد كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة صنعاء – قد يوحي بالموضوعية العلمية، لكن عيسى يُعد، وفق تقارير، صهرًا لعبدالملك الحوثي، زعيم الحركة. وهو ارتباط عائلي يضفي على موقفه ثقلًا إضافيًا، ويعكس كيف تمتزج الروابط الأسرية بالأيديولوجيا في مثل هذه الحركات.

في مقالته، أعاد عيسى صياغة الرسالة الأميركية بالكامل؛ فلم يتعامل معها بوصفها سخرية مرتبطة بالمخدرات، بل باعتبارها عملًا من أعمال “الحرب النفسية”، تقوده “سفارة الشيطان الأكبر”. وأكد أن واشنطن في أزمة، إذ فقدت الثقة في “وكلائها المحليين” – من منظمات غير حكومية ووسائل إعلام وناشطين مدنيين – الذين عجزوا جميعًا عن التأثير في الرأي العام اليمني. وقال: «حين يتحدث الراعي فهذا يعني أن الأدوات قد ماتت»، في إشارة واضحة إلى أن هؤلاء “الوكلاء” باتوا يخجلون من ارتباطهم براعٍ فقد مصداقيته، فتخلوا عن أميركا، الأمر الذي أجبر السفارة على التدخل مباشرة.

بهذا المنطق الدعائي، حوّل عيسى مجرد تواصل السفارة الأميركية مع الجمهور اليمني إلى إقرار بالهزيمة، مقدّمًا النقد المحلي على أنه أداة أجنبية، والكاريكاتور الأميركي على أنه دليل اضطرار واشنطن إلى الانخراط بنفسها بعدما فشلت أدواتها.

بعد ذلك، انتقل عبدالملك عيسى إلى ملف غزة، فقدم رواية مفادها أن الكاريكاتور الذي نشرته السفارة الأميركية لم يكن سوى خطوة انتقامية جاءت ردًا على الحشد الشعبي في اليمن دعمًا لفلسطين. فقبل أيام قليلة، كانت صنعاء قد نظمت حملات جماهيرية واسعة للتضامن مع غزة ورفض نزع سلاح حزب الله، فيما وصفه عيسى بـ”التماسك الديني والشعبي للمجتمع اليمني”. غير أن قياس هذا “التماسك” يبدو سهلًا في بيئة يُقابَل فيها أي اعتراض بالقمع أو الاعتقال أو بما هو أشد. وبرأيه، فإن نجاح الحوثيين في هذا السياق أثار قلق واشنطن وحلفائها الخليجيين. وقد استشهد عيسى بدليل إضافي تمثل في تصريح للمتحدث باسم كتائب القسام (أبو عبيدة)، الذي وصف الحوثيين قبل شهر بأنهم “إخوان الصدق”. وهو تأييد اعتبره عيسى سببًا كافيًا لإثارة مخاوف الولايات المتحدة، ليصبح الكاريكاتور الأميركي في نظره مجرد رد فعل محدود: ضربة موجهة لليمن ليس بسبب تجارة المخدرات، بل لأنه اكتسب مكانة متقدمة لدى المقاومة الفلسطينية.

وهذا المنطق يعكس ما يمكن تسميته بالاستراتيجية الأوسع للحوثيين، أي استخدام غزة كذريعة شاملة. فكل انتقاد يُعاد تفسيره باعتباره عقابًا على موقف اليمن من فلسطين.

فالتهريب يوصف بأنه حملة تشويه لمعاقبة صنعاء على تضامنها مع غزة؛
والانهيار الاقتصادي يُقدَّم كثمن لا بد من دفعه في سبيل الولاء لغزة؛
والقمع والسجون ضرورة تفرضها حماية القضية الفلسطينية.

بهذه الطريقة، يدمج الحوثيون مختلف التحديات الداخلية في إطار واحد، ويحوّلون النضال الفلسطيني إلى درع واقٍ يصدّ النقد، ويضفي الشرعية على الانتهاكات، ويحوّل أي مساءلة لهم إلى خيانة لخط المقاومة.

ولتعزيز حجته، نسج عبدالملك عيسى آيات قرآنية في ثنايا مقاله: «وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ» (القلم: 9)، و«إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا» (آل عمران: 120). كل آية كانت بمثابة خلفية دينية تعزز خطابه: محاولات أميركا لتشويه صورة الحوثيين لا تُظهر سوى فسادها الأخلاقي. فبالنسبة لعيسى، كل إساءة هي برهان على الفضيلة، وكل هجوم تأكيد إلهي على “عدالة الموقف اليمني”.

ثم جاءت العبارة المفتاحية: الكاريكاتور الذي نشرته السفارة الأميركية هو جزء من “حرب ناعمة”. هذا المصطلح مألوف لدى الحوثيين، وقد استخدموه في مواجهة خصومهم، لكنه ليس مفهومًا محليًا، بل مستعار مباشرة من القاموس الأيديولوجي لحزب الله والحرس الثوري الإيراني. فمنذ ما يقارب العقدين، دأب القادة الإيرانيون – من المرشد الأعلى علي خامنئي إلى الحرس الثوري – على توظيفه لوصف محاولات الغرب تقويض “جبهة المقاومة” عبر الثقافة والإعلام والمنظمات غير الحكومية والموسيقى وحتى السخرية. وقد حذّر التيار الإيراني المتشدد مرارًا من “الحرب الناعمة” لتفسير كل شيء، من احتجاجات الطلاب إلى أفلام هوليوود. واليوم، يكرّر الحوثيون هذا الخطاب بحذافيره تقريبًا، مع إعادة توظيفه في السياق اليمني. وهكذا، يُغدو كاريكاتور السفارة الأميركية ليس انتقادًا لتجارة المخدرات، بل اعتداءً على “الوعي القرآني” نفسه.

يجمع عيسى بين القرابة والنخبة الفكرية؛ فصِلته الدموية بالزعيم تمنح الرسالة شرعية عائلية، ومنصبه الأكاديمي كأستاذ جامعي يضفي عليها هالة معرفية. لكن هذا يكشف – في الوقت نفسه – مأساة اليمن؛ إذ إن جامعة صنعاء، التي كانت في السابق منارة هشة تأسست بدعم خليجي، خصوصًا من الكويت، وسمحت بهامش من الحرية الفكرية، باتت اليوم تؤدي دورًا في ماكينة الدعاية الأوسع، حيث يُنتَج الخطاب الأيديولوجي بدلًا من البحث العلمي.

أما تسلسل الأحداث، فيروي القصة بوضوح: الكاريكاتور نُشر، ثم كتب صهر الزعيم ردًا، ليُضخَّم عبر قناة المسيرة، وتُستحضر غزة، وتُستشهد آيات قرآنية، ويُستعار قاموس “الحرب النائمة” الإيراني. وفي غضون يوم واحد فقط، اختفت التهمة الأصلية – تهريب المخدرات – لتحل محلها عقيدة مكتملة: أميركا يائسة، اليمن على حق، غزة تؤكد ذلك، أبو عبيدة يزكيه، والآيات القرآنية تضفي عليه طابع القداسة.

بالنسبة للحوثيين المدعومين من إيران، لا يمكن ترك الاستفزازات – مهما بدت صغيرة – تمر مرور الكرام في إطار هذا النظام. بل يجب امتصاصها، وإعادة صياغتها، ثم إرجاعها إلى الرأي العام باعتبارها تأكيدًا على الصواب. ففي طهران، وفي بيروت حيث يتمركز حزب الله، واليوم في صنعاء الخاضعة لسيطرة الحوثيين، تتكرر العملية ذاتها: كاريكاتور يتحول إلى دليل على “حرب مقدسة”، ومقال رأي يغدو بمثابة “نص شعائري”، وجامعة تتحول إلى مصنع لإعادة إنتاج الأيديولوجيا.

ظاهريًا، بدا الأمر مجرد سجال حول رسم. لكن في الجوهر، كشف عن آلة كاملة للتحكم في السرديات أصبحت مشتركة عبر محور كامل؛ فكل استفزاز يُعاد تحويله إلى برهان، وكل إساءة تُرفَع إلى مستوى العقيدة، وكل تحدٍّ خارجي يصبح لبنة إضافية في جدار اليقين الأيديولوجي.

في هذا النظام، تختفي التعقيدات: فالكاريكاتور عن المخدرات لا يمكن أن يُفسَّر على أنه مجرد إشارة للمخدرات، بل لا بد أن يُؤطَّر كـ”حرب نفسية”. وأميركا لا يمكن أن تكون لها دوافع مختلطة، بل يجب أن تُصوَّر على أنها يائسة وشريرة بالكامل. واليمن لا يُمكن أن يُنظر إليه كبلد يملك مظالم مشروعة، لكنه – في الوقت نفسه – يواجه مشكلات حقيقية مع التهريب، بل يجب تصويره على أنه بريء بالمطلق وصاحب قضية عادلة خالصة. لذا، فالهدف النهائي يتمحور حول محو الغموض ذاته، بحيث لا يبقى أي مجال للتناقضات الفوضوية التي تفرضها حقيقة الواقع.

وأنا أتأمل في ذلك، لا يزال يلازمني سطر من كتاب أهدتني إياه صديقة ومرشدة سابقة (مارتا كولبورن). ففي إحدى الحواشي، نقلت عن ج. ويمان بيري في مطلع القرن العشرين قوله: «اليمني ليس متعصبًا؛ فهو يمتلك رؤيته الدينية الخاصة، لكنه يدرك – من خلال الانقسامات المذهبية بين أبناء شعبه – أن لكل مسألة دينية وجهين على الأقل». أما اليوم، بالنسبة لجيل نشأ تحت حكم الحوثيين، فلم يعد الأمر كذلك.

لقراءة المادة من موقعها الأصلي يرجى فتح الرابط التالي: 

 


التعليقات